من المؤكد أن ثمة حاجة إلى استنبات مختبرات بحث في المغرب والعالم العربي عموما، على غرار ما هو موجود في الغرب، لإقامة الجسور بين أنثروبولوجيا الفرجة وأنثروبولوجيا المسرح، بالانفتاح على الهوامش الثقافية والتعبيرية، وتصحيح العلاقة الملتبسة بالأشكال الفرجوية وبالآخر/ المنتمي للجنوب، واستحضار كل إمكانات التمسرح من فرجة القول والنظم في تقاطعها مع الشمال، وفرجة الجسد في تقاطعها مع الجنوب.
تلك إحدى الخلاصات الأساسية التي ينتهي إليها الباحث والأديب المسرحي المغربي محمد أبو العُـلا في كتابه الجديد «المسرح والسرد: نحو شعريات جديدة» الصادر ضمن منشورات «فالية للطباعة والنشر والتوزيع»؛ فالهاجس الذي يحكم المؤلف على امتداد 107 صفحات من القطع المتوسط، هو المساهمة في إبراز شعرية واصلة بين الخطابين المسرحي والسردي، بدل الفصل الأجناسي المتوارث عن أرسطو، في ضوء ما تشكله عودة السرد إلى الواجهة اليوم من أسئلة وإبدالات، من شأنها فك العزلة عن الخطاب الدرامي بتلقيحه من الخارج، عوض الركون إلى تثويره من الداخل، وتلمس طريق شعريات جديدة ذات مرتكزات نظرية وجمالية تتموضع في خريطة ما بعد الحداثة.
بين النظرية والتطبيق
وفق هذه الرؤية، يزاوج المؤلف في هذا الكتاب بين شقين أحدهما نظري والآخر تطبيقي، يتناول الشق النظري مجموعة من المحاور: المسرح والهوية من التثاقف إلى التناسج، التقاطع بين خميمياء باولو كويلو وكيمياء مسرح بيتر بروك، المسرح والحكي بين التفاعل والإزاحة، الطيب الصديقي وتربيع المثلث الشعبي: بارت/ الخطيبي/ فيلار. أما الشق التطبيقي فيحلل مجموعة من الأعمال والتجارب: احتضان المسرح للسرد من خلال مونودراما «باي باي جيلو» (طه عدنان، إبراهيم الهنائي)، عرض «شجر مر» لعبد المجيد الهواس، نص «بشار الخير» لمحمد الكغاط، عرض «الرابوز» لفرقة فيزاج، «كدور الذهب» لفرقة أدوار للمسرح الحر.
ومقابل عودة السرد إلى المسرح في المنجز المسرحي المغربي، كما تبدى في النماذج المذكورة، يتناول المؤلف احتضان السرد الروائي للمسرح، من خلال الوقوف عند تمظهرات حضور «هاملت» شكسبير في رواية «المغاربة» لعبد الكريم جويطي، في إطار تساوق فصول الخيانة في المتخيلين، ومسوغات الهجرة المضاعفة نحو تراجيديات الدنمارك، بالإضافة إلى توسيع حوارية الرواية، بتهجين السرد بسرد ملعوب، شكل فضاؤه النصي علامة فارقة، ثم الإصرار على اعتماد خطاب مغاير، بالانتقال بالملفوظ من مستوى التداول الكتابي الصرف إلى استشراف تداوله شفاهيا، وخرق عرف الحوار الروائي بافتراض قارئ راءٍ.
ويلاحظ أبو العلا في كتابه الجديد أن المنعطف السردي كاختيار ما بعد درامي، أمسى رهانا مغريا من منظور الباحثين والمبدعين في المسرح اليوم، بما يشرعه من تخصيب للفرجة، وتوسيع أفقها بأسئلة متصلة بشعرية السرد، سواء في الغرب أو في المغرب ودول عربية أخرى، من خلال ما تحصّل بفعل انفتاح النقد الأدبي المبكر على إبدالات وأسئلة عابرة نحو النص ومتعايلاته، ثم الرهان على توسيع مدار البحث من داخل هذه الشعرية الوافدة، عبر الانتقال من دائرة التفاعل النصي إلى دائرة التلقي، وهو الرهان الذي يمكن استثماره مسرحيا، مع الاحتراز من المآزق الحافّة به في علاقته بالتراث وبالآخر. وخلال استقراء ما أبرزته السرديات من مراحل متقدمة، يستحضر المؤلف الخلاصة التي انتهى إليها باتريس بافيس بتأكيده على أن الدراماتورجيا، كلاسيكية أو ما بعد كلاسيكية، لم تمتح بما يكفي من نظريات علم السرد، إذ تركت هذا العلم يتجدد في الظل.
نحو والآخر والفرجة
من جانب آخر، يطرح محمد أبو العلا سؤالا جوهريا هو: هل انفتحنا مغربيا ـ على الأقل ـ على عمقنا الإفريقي، نحن الذين نتقاسم معه التاريخ وتخوم الجنوب؟ هل نهادن أن نجلد ذاتنا النائية عن صنع فرجتنا على مقاس كوني، فنضعها في خانة المسرح/ المربع الأول لسانتياغو (عزلة الراعي وكتابه الأول)؟ ويجيب بالقول: إن التوتر الإشكالي الحاد الذي بدا عليه الوعي العربي، في مقاربته لمسألة الأنا والآخر ـ من منظور الباحث عبد الإله بلقزيز ـ قد قام، على عكس الغرب، على تناقض تكويني، أفضى إلى صورة انقسام معرفي بين خطابين، يمتنع عن الفهم، بمعزل عن الشروط التي هي ليست شيئا آخر، غير الصدمة الحادة التي خلقها في الوعي العربي اكتشاف الغرب، واكتشاف الفجوة التي تفصلنا ثقافيا وحضاريا، والحصيلة هي غياب إمكانية صوغ نظريات معزولة عن سياق المقدمات الثقافية للإخفاق التي تحكمت في مسار المثاقفة وتبعات الوعي العربي لصدمة الغرب.
ويتابع الباحث نفسه قائلا: على عكس مقدمات التفكيك الموفقة في الغرب التي عملت على اجتراح مسار الثقافة الغربية ومنها المسرح، بتحضير الأرضية الخصبة لتفاعل فرجوي عابر للقارات وتصحيح صورة الآخر بتجسير المعابر المفضية إلى تخومه، ظل المسرح عندنا محكوما بالإخفاق في حل أسئلة تتجاوزه، وذلك لاستسهاله الحسم في إشكالات مسرحية، لها امتداداتها خارج خطابه، داخل سياق ثقافي إشكالي حاضن بمزالق المقدمات الثقافية للإخفاق، ومنها التوتر بين حدين قصيين: حد الدفاع المستميت عن الهوية والموروث الثقافي والاجتماعي والقيمي في وجه زحف الحداثة الجارف وما رافقه من نتائج فادحة الأثر، وحد التبشير بحداثة حاملة لقيم كونية لا يجوز التردد أمام الأخذ بها تحت أي عنوان مبرر مثل الخصوصية والهوية. ويؤكد المؤلف أن حرق المسافات بالعبور احتذاء الغرب إلى مربع الحوار بينه وبين شرقه، والتفاعل مع أطروحة التناسج، في غياب الحسم في أسئلة المربع الأول، قد يفضي إلى تصديع هذا المسرح من الخارج بتوسيع دائرة تأرجحه المأساوي بين إنجازات الآخر وطرح إمكانية إثبات الذات، علاوة على تبعات مفارقة مشهد مسرحي داخلي موصول بتنظير طافح بدراماتورجيا ركحية ما بعد درامية، وآخر تأصيلي مشبع بدراماتورجيا كلاسيكية مقيمة في اللغة، ما يجعل اجتراح مسار مواز لمسار التناسج بالغرب مكلفا عند العرب، لما يطرحه على كاهل البحث في هذا الاتجاه من إشكالات، منها الحاجة إلى منسوب كاف من كيمياء التواصل بين ذوات فاعلة (نقاد مبدعون) للانخراط في إثراء وتقاسم هذه الشعرية الوافدة، إضافة إلى تباين وتيرة الإنتاج على مستوى البحث والتنظير ووتيرة المنجز التجريبي المنضبط إبداعيا لانشغالات هذا البحث ومقاصده.
ويثير الكاتب الانتباه إلى ما يسميه «الخانات الفارغة» التي تنتظر البحث والنقد المسرحيين، لتجاوز الوضعية التي أدى إليها نقد مسرحي منضبط لخطابه من عمى ثقافي، موصول بغياب التجسير بين شعرية منشغلة بالجسد كنص متحرك على الركح، ونصوص جسد خام راسبة في الفرجات المتحركة في المجال، الشيء الذي أفضى إلى غياب وعي بعيوب نسقية مختبئة تحت عباءة الجمالي، حتى صارت النماذج الراقية هي مصادر الخلل النسقي.
تجدر الإشارة إلى أن كتاب «المسرح والسرد» لمحمد أبو العلا تتصدره مقدمة للباحث والفنان المسرحي إبراهيم الهنائي، تحت عنوان «عندما يفتح الركح ذراعيه لشهرزاد»، حيث يتوقف عند مجموعة من التساؤلات الصريحة والمضمرة التي يحيل عليها مؤلف الكتاب، من بينها: هل رهان «التناسج» مؤشر على استنفاد المسرح الغربي لأسئلته؟ ما هي منطلقات وآفاق ترهين واحتضان المسرحيّ للمحكيّ؟ ماذا تشكل العودة إلى المحكي التراثي في المسرح العربي؟ هل هي إشارة لتصدع النموذج الغربي الذي هيمن وما زال يهيمن على المسرح العربي؟ كيف نمازج بين الفكر/ النموذج الغربي الذي يربطنا بعصرنا وبتراثنا الذي يشكل هويتنا الأساس؟ وهي أسئلة تخترق أبواب هذا الكتاب، ويحاول مؤلفه الإجابة عنها جامعا بين النظرية والتطبيق.
الطاهر الطويل